كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{حتى نَسُواْ الذكر} أي تركوا ذكرك فأشركوا بك بطرًا وجهلًا فعبدونا من غير أن أمرناهم بذلك.
وفي الذكر قولان:
أحدهما: القرآن المنزل على الرسل؛ تركوا العمل به؛ قاله ابن زيد.
الثاني؛ الشكر على الإحسان إليهم والإنعام عليهم.
إنهم {وَكَانُواْ قَوْمًا بُورًا} أي هلكى؛ قاله ابن عباس.
مأخوذ من البوار وهو الهلاك.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه وقد أشرف على أهل حِمص: يا أهل حمص! هلم إلى أخ لكم ناصح، فلما اجتمعوا حوله قال: ما لكم لا تستحون! تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتأمُلون ما لا تدركون، إن من كان قبلكم بنوا مشيدًا وجمعوا عبيدًا، وأملوا بعيدًا، فأصبح جمعهم بورًا، وآمالهم غرورًا، ومساكنهم قبورًا.
فقوله: {بُورًا} أي هلكى.
وفي خبر آخر: فأصبحت منازلهم بورًا؛ أي خالية لا شيء فيها.
وقال الحسن: {بُورًا} لا خير فيهم.
مأخوذ من بوار الأرض، وهو تعطيلها من الزرع فلا يكون فيها خير.
وقال شهر بن حَوْشبَ: البوار الفساد والكساد؛ مأخوذ من قولهم: بارت السلعة إذا كسدت كساد الفاسد؛ ومنه الحديث: «نعوذ بالله من بوار الأَيِّم» وهو اسم مصدر كالزّور يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث.
قال ابن الزِّبَعْرىَ:
يا رسولَ المليكِ إنّ لساني ** راتِقٌ ما فَتَقتُ إذ أنا بُورُ

إذ أُباري الشيطانَ في سَنَن الغـ ** ـنيِّ ومَنْ مَالَ ميلَه مثْبُورُ

وقال بعضهم: الواحد بائر والجمع بُور.
كما يقال: عائذ وعُوذ، وهائد وهُود.
وقيل: {بُورًا} عميًا عن الحق.
قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} أي يقول الله تعالى عند تبرّي المعبودين: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} أي في قولكم إنهم آلهة.
{فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} يعني الآلهة صرف العذاب عنكم ولا نصركم.
وقيل: فما يستطيع هؤلاء الكفار لما كذبهم المعبودون {صَرْفًا} للعذاب {وَلاَ نَصْرًا} من الله.
وقال ابن زيد: المعنى فقد كذبكم أيها المؤمنون هؤلاء الكفار بما جاء به محمد؛ وعلى هذا فمعنى {بِمَا تَقُولُونَ} بما تقولون من الحق وقال أبو عبيد: المعنى؛ فيما تقولون فما يستطيعون لكم صرفًا عن الحق الذي هداكم الله إليه، ولا نصرًا لأنفسهم مما ينزل بهم من العذاب بتكذيبهم إياكم.
وقراءة العامة {بِمَا تَقُولُونَ} بالتاء على الخطاب.
وقد بيّنا معناه.
وحكى الفراء أنه يقرأ: {فَقَدْ كَذَبُوكُمْ} مخففًا، {بِمَا يَقُولُونَ}.
وكذا قرأ مجاهد والبَزّي بالياء، ويكون معنى {يَقُولُونَ} بقولهم.
وقرأ أبو حَيْوَة: {بِمَا يَقُولُونَ} بياء {فَما تَسْتَطِيعُونَ} بتاء على الخطاب لمتخِذِي الشركاء.
ومن قرأ بالياء فالمعنى: فما يستطيع الشركاء.
{وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ} قال ابن عباس: من يشرك منكم ثم مات عليه.
{نُذِقْهُ} أي في الآخرة.
{عَذَابًا كَبِيرًا} أي شديدًا؛ كقوله تعالى: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 4] أي شديدًا.
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} فيه تسع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين} نزلت جوابًا للمشركين حيث قالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ}.
وقال ابن عباس: لما عير المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة وقالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} الآية حزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فنزلت تعزية له؛ فقال جبريل عليه السلام: السلام عليك يا رسول اللها الله ربك يقرئك السلام ويقول لك: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق} أي يبتغون المعايش في الدنيا.
الثانية: قوله تعالى: {إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام} إذا دخلت اللام لم يكن في إن إلا الكسر، ولو لم تكن اللام ما جاز أيضا إلا الكسر؛ لأنها مستأنفة.
هذا قول جميع النحويين.
قال النحاس: إلا أن عليّ بن سليمان حكى لنا عن محمد بن يزيد قال: يجوز في إنّ هذه الفتح وإن كان بعدها اللام؛ وأحسبه وهْما منه.
قال أبو إسحاق الزجاج: وفي الكلام حذف؛ والمعنى وما أرسلنا قلبك رسلًا إلا إنهم ليأكلون الطعام، ثم حذف رسلًا، لأن في قوله: {مِن المرسلِينَ} ما يدل عليه.
فالموصوف محذوف عند الزجاج.
ولا يجوز عنده حذف الموصول وتبقية الصلة كما قال الفراء.
قال الفراء: والمحذوف {مَن} والمعنى إلا مَنْ إنهم ليأكلون الطعام.
وشبّهه بقوله: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164]، وقوله: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] أي ما منكم إلا من هو واردها.
وهذا قول الكسائيّ أيضًا.
وتقول العرب: ما بعثت إليك من الناس إلا مَن إنه ليطيعك.
فقولك: إنه ليطيعك صلة من.
قال الزجاج: هذا خطأ؛ لأن من موصولة فلا يجوز حذفها.
وقال أهل المعاني: المعنى؛ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قيل إنهم ليأكلون؛ دليله قوله تعالى: {مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} [فصلت: 43].
وقال ابن الأنباريّ: كسرت {إِنَّهُمْ} بعد {إلا} للاستئناف بإضمار واو.
أي إلا وإنهم.
وذهبت فرقة إلى أن قوله: {لَيَاْكُلُونَ الطَعَاَمَ} كناية عن الحدث.
قلت: وهذا بليغ في معناه، ومثله {مَّا المسيح ابن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} [المائدة: 75].
{وَيَمْشُونَ فِي الأسواق} قرأ الجمهور {يمْشُونَ} بفتح الياء وسكون الميم وتخفيف الشين.
وقرأ عليّ وابن عوف وابن مسعود بضم الياء وفتح الميم وشد الشين المفتوحة، بمعنى يُدْعَون إلى المشي ويحملون عليه.
وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلمَيّ بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشدّدة، وهي بمعنى يَمْشُونَ؛ قال الشاعر:
ومَشَّى بأعطان المَبَاءة وابتغى ** قلائصَ منها صعبةٌ ورَكُوبُ

وقال كعب بن زهير:
منه تظل سِباعُ الجوِّ ضامِزةً ** ولا تُمَشِّي بوادِيه الأَراجيلُ

بمعنى تمْشي.
الثالثة: هذه الآية أصل في تناول الأسباب وطلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك.
وقد مضى هذا المعنى في غير موضع، لكنا نذكر هنا من ذلك ما يكفي فنقول: قال لي بعض مشايخ هذا الزمان في كلام جرى: إن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا ليسنوا الأسباب للضعفاء؛ فقلت مجيبًا له: هذا قول لا يصدر إلا من الجهال والأغِنياء، والرعاع السفهاء، أو من طاعن في الكتاب والسنة العلياء؛ وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن أصفيائه ورسله وأنبيائه بالأسباب والاحتراف فقال وقوله الحق: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} [الأنبياء: 80].
وقال: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق} قال العلماء: أي يتجرون ويحترفون.
وقال عليه الصلاة والسلام: «جُعِل رزقي تحت ظل رُمْحي» وقال تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلًا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] وكان الصحابة رضي الله عنهم يتجرون ويحترفون وفي أموالهم يعملون، ومن خالفهم من الكفار يقاتلون؛ أتراهم ضعفاء! بل هم كانوا والله الأقوياء، وبهم الخلف الصالح اقتدَى، وطريقهم فيه الهدى والاهتداء.
قال: إنما تناولوها لأنهم أئمة الاقتداء، فتناولوها مباشرة في حق الضعفاء، فأما في حق أنفسهم فلا؛ وبيان ذلك أصحابُ الصُّفَّة.
قلت: لو كان ذلك لوجب عليهم وعلى الرسول معهم البيان؛ كما ثبت في القرآن {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وقال: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى} [البقرة: 159] الآية.
وهذا من البينات والهدى.
وأما أصحاب الصُّفة فإنهم كانوا ضيف الإسلام عند ضيق الحال، فكان عليه السلام إذا أتته صدقة خصهم بها، وإذا أتته هدية أكلها معهم، وكانوا مع هذا يحتطبون ويسوقون الماء إلى أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذا وصفهم البخاريّ وغيره.
ثم لما افتتَح الله عليهم البلاد ومهد لهم المهاد تأمّروا، وبالأسباب أُمِروا.
ثم إن هذا القول يدلّ على ضعف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأنهم أُيِّدوا بالملائكة وثُبّتوا بهم، فلو كانوا أقوياء ما احتاجوا إلى تأييد الملائكة وتأييدهم إذ ذلك سبب من أسباب النصر؛ نعوذ بالله من قول وإطلاق يؤول إلى هذا، بل القول بالأسباب والوسائط سنة الله وسنة رسوله، وهو الحق المبين، والطريق المستقيم الذي انعقد عليه إجماع المسلمين؛ وإلا كان يكون قوله الحق: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل} [الأنفال: 60] الآية مقصورًا على الضعفاء، وجميع الخطابات كذلك.
وفي التنزيل حيث خاطب موسى الكِليم {اضرب بِّعَصَاكَ البحر} [الشعراء: 63] وقد كان قادرًا على فلق البحر دون ضرب عصا.
وكذلك مريم عليها السلام {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة} [مريم: 25] وقد كان قادرًا على سقوط الرطب دون هزّ ولا تعب؛ ومع هذا كله فلا ننكر أن يكون رجل يلطَف به ويعان، أو تجاب دعوته، أو يكرم بكرامة في خاصة نفسه أو لأجل غيره، ولا تهدّ لذلك القواعد الكلية والأمور الجملية.
هيهات هيهات! لا يقال فقد قال الله تعالى: {وَفِي السماء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] فإنا نقول: صدق الله العظيم، وصدق رسوله الكريم، وأن الرزق هنا المطر بإجماع أهل التأويل؛ بدليل؛ قوله: {وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السماء رِزْقًا} [غافر: 13] وقال: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السماء مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحصيد} [ق: 9] ولم يشاهد ينزل من السماء على الخلق أطباقَ الخبز ولا جِفان اللحم، بل الأسباب أصل في وجود ذلك؛ وهو معنى قوله عليه السلام: «اطلبوا الرزق في خبايا الأرض» أي بالحرث والحفر والغرس.
وقد يسمى الشيء بما يؤول إليه، وسمي المطر رزقًا لأنه عنه يكون الرزق، وذلك مشهور في كلام العرب.
وقال عليه السلام: «لأنّ يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل أحدًا أعطاه أو منعه» وهذا فيما خرج من غير تعب من الحشيش والحطب.
ولو قُدِّر رجل بالجبال منقطعًا عن الناس لما كان له بَد من الخروج إلى ما تخرجه الآكام وظهور الأعلام حتى يتناول من ذلك ما يعيش به؛ وهو معنى قوله عليه السلام: «لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكّله لرزقتم كما تُرزق الطير تغدو خِماصا وتروح بِطانا» فغدوّها ورواحها سبب؛ فالعجب العجب ممن يدعي التجريد والتوكل على التحقيق، ويقعد على ثنيات الطريق، ويدع الطريق المستقيم، والمنهج الواضح القويم.